فصل: باب إكراهِ الْخَوَارِجِ الْمُتَأَوِّلِينَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بابُ الإكراهِ على النَّذْرِ والْيَمِينِ:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ) وَلَوْ أُكْرِهَ بِوَعِيدِ تَلَفٍ حَتَّى جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ صَدَقَةً لِلَّهِ، أَوْ صَوْمًا، أَوْ حَجًّا، أَوْ عُمْرَةً، أَوْ غَزْوَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ بَدَنَةً، أَوْ شَيْئًا يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَزِمَهُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى الْيَمِينِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ بِغَيْرِهِ مِنْ الطَّاعَاتِ، أَوْ الْمَعَاصِي، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا أَخَذُوهُ، وَاسْتَحْلَفُوهُ عَلَى أَنْ لَا يَنْصُرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ حَلَفَ مُكْرَهًا، ثُمَّ أَخْبَرَ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أَوْفِ لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَنَحْنُ نَسْتَعِينُ بِاَللَّهِ عَلَيْهِمْ»، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْيَمِينَ بِمَنْزِلَةِ الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ فِي أَنَّ الْهَزْلَ، وَالْجِدَّ فِيهِ سَوَاءٌ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِيهِ مَنْعَ نَفْسِهِ عَنْ شَيْءٍ، وَإِيجَابُ شَيْءٍ عَلَى نَفْسِهِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ الَّذِي يَتَضَمَّنُ تَحْرِيمَ الْفَرْجِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، فَيَسْتَوِي فِيهِ الْكُرْهُ، وَالطَّوْعُ، وَالنَّذْرُ بِمَنْزِلَةِ الْيَمِينِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «النَّذْرُ يَمِينٌ»، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَهُ لَا يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ، وَإِنَّمَا يُنْسَبُ إلَيْهِ التَّلَفُ الْحَاصِلُ بِهِ، وَلَا يُتْلَفُ عَلَيْهِ شَيْءٌ بِهَذَا الِالْتِزَامِ، ثُمَّ الْمُكْرِهُ إنَّمَا أَلْزَمهُ شَيْئًا يُؤْثَرُ الْوَفَاءُ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ رَبِّهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجْبَرَ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ، فَلَوْ ضَمِنَ لَهُ شَيْئًا كَانَ يُجْبَرُ عَلَى إيفَاءِ مَا ضَمِنَ فِي الْحُكْمِ، فَيُؤَدِّي إلَى أَنْ يَلْزَمَهُ أَكْثَرُ مِمَّا يَلْزَمُ الْمُكْرَهَ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ.
وَلَوْ كَانَ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يُظَاهِرَ مِنْ امْرَأَتِهِ كَانَ مُظَاهِرًا؛ لِأَنَّ الظِّهَارَ مِنْ أَسْبَابِ التَّحْرِيمِ، ثُمَّ يَسْتَوِي فِيهِ الْجِدُّ، وَالْهَزْلُ، وَقَدْ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَوْجَبَ الشَّرْعُ بِهِ حُرْمَةً مُوَقَّتَةً بِالْكَفَّارَةِ، فَكَمَا أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الطَّلَاقِ، فَكَذَلِكَ فِي الظِّهَارِ.
فَإِنْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يُكَفِّرَ، فَفَعَلَ لَمْ يَرْجِعْ بِذَلِكَ عَلَى الَّذِي أَكْرَهَهُ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ عَنْ حَقٍّ لَزِمَهُ، وَذَلِكَ مِنْهُ حَسَنَةٌ لَا إتْلَافَ شَيْءٍ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ.
وَإِنْ أَكْرَهَهُ عَلَى عِتْقِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ عَنْ ظِهَارٍ، فَفَعَلَ عَتَقَ، وَعَلَى الْمُكْرِهِ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُتْلِفًا عَلَيْهِ مَالِيَّةَ الْعَبْدِ بِإِكْرَاهِهِ عَلَى إبْطَالِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عِتْقُ هَذَا الْعَبْدِ بِعَيْنِهِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بَلْ الْمُسْتَحَقُّ كَانَ، وَاجِبًا فِي ذِمَّتِهِ يُؤْمَرُ بِالْخُرُوجِ عَنْهُ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ كَالْمَعْدُومِ، فَلِهَذَا ضَمِنَ الْمُكْرِهُ قِيمَتَهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ أَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْصِدَ إبْطَالَ مِلْكِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ، ثُمَّ لَا يُجْزِيهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى عِتْقٍ بِعِوَضٍ، وَلَوْ اسْتَحَقَّ الْعِوَضَ عَلَى الْعَبْدِ بِالشَّرْطِ لَمْ يَجُزْ عَنْ الْكَفَّارَةِ، فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَحَقَّ الْعِوَضَ عَلَى الْمُكْرِهِ، فَإِنْ قَالَ: أَنَا أُبْرِئُهُ مِنْ الْقِيمَةِ حَتَّى يَجْزِيَنِي مِنْ الْكَفَّارَةِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ نَقْدٌ غَيْرُ مُجْزِئٍ عَنْ الْكَفَّارَةِ، وَالْمَوْجُودُ بَعْدَهُ إبْرَاءٌ عَنْ الدَّيْنِ، وَبِالْإِبْرَاءِ لَا تَتَأَدَّى الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ قَالَ: أَعْتَقْتُهُ حِينَ أَكْرَهَنِي، وَأَرَدْت بِهِ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ، وَلَمْ أُعْتِقْهُ لِإِكْرَاهِهِ أَجْزَأَهُ عَنْ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الْمُكْرِهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ طَائِعًا فِي تَصَرُّفِهِ قَاصِدًا إلَى إسْقَاطِ الْوَاجِبِ عَنْ ذِمَّتِهِ، وَإِقْرَارُهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَالَ أَرَدْتُ الْعِتْقَ عَنْ الظِّهَارِ كَمَا أَمَرَنِي، وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِي غَيْرُ ذَلِكَ لَمْ يَجْزِهِ عَنْ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَلَهُ عَلَى الْمُكْرِهِ الْقِيمَةُ؛ لِأَنَّهُ أَجَابَ الْمُكْرِهَ إلَى مَا أَكْرَهَهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْعِتْقُ عَنْ الظِّهَارِ، فَلَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُكْرَهًا، فَإِذَا كَانَ مُكْرَهًا كَانَ التَّلَفُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ هُنَاكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ لَمْ يُعْتِقْهُ لِإِكْرَاهِهِ بَلْ لِاخْتِيَارِهِ إسْقَاطَ الْوَاجِبِ عَنْ ذِمَّتِهِ بِهِ طَوْعًا، وَإِنْ كَانَ أَكْرَهَهُ بِحَبْسٍ، أَوْ قَيْدٍ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ لِانْعِدَامِ الْإِلْجَاءِ، وَجَازَ عَنْ كَفَّارَتِهِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ حَصَلَ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَاقْتَرَنَتْ بِهِ نِيَّةُ الظِّهَارِ.
وَلَوْ أَكْرَهَهُ بِوَعِيدِ تَلَفٍ حَتَّى آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ، فَهُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ طَلَاقٌ مُؤَجَّلٌ، أَوْ هُوَ يَمِينٌ فِي الْحَالِ، وَالْإِكْرَاهُ لَا يَمْنَعُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِنْ تَرَكَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَبَانَتْ مِنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا وَجَبَ عَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ، وَلَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الَّذِي أَكْرَهَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَنْ يَقْرَبَهَا فِي الْمُدَّةِ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ، فَهُوَ كَالرَّاضِي بِمَا لَزِمَهُ مِنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ، وَإِنْ قَرِبَهَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ مَا جَرَى عَلَى سُنَنِ إكْرَاهِهِ، فَإِنَّهُ بِالْإِكْرَاهِ مَنَعَهُ مِنْ الْقُرْبَانِ، وَقَدْ أَتَى بِضِدِّهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَزِمَهُ كَفَّارَةُ يَعْنِي بِهَا، فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِضَمَانٍ يُحْبَسُ بِهِ.
.
وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ قَالَ إنْ قَرِبْتُهَا، فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فَقَرِبَهَا، فَطَلُقَتْ، وَلَزِمَهُ مَهْرُهَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ مَا أَكْرَهَهُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْمَهْرَ لَزِمَهُ بِالدُّخُولِ، فَإِنَّمَا أَتْلَفَ عَلَيْهِ بِإِكْرَاهِهِ مِلْكَ النِّكَاحِ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ، فَلَا يَضْمَنُ الْمُكْرِهُ لَهُ قِيمَتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَقْرَبْهَا حَتَّى بَانَتْ بِمُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَعَلَيْهِ نِصْفُ الصَّدَاقِ، وَلَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الَّذِي أَكْرَهَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُجَامِعَهَا، فَيَجِبُ الْمَهْرُ بِجِمَاعِهِ إيَّاهَا لَا بِمَا أَلْجَأَهُ إلَيْهِ الْمُكْرِهُ، وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْجِمَاعِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَقُولَ إنْ قَرِبْتهَا، فَعَبْدِي هَذَا حُرٌّ، فَإِنْ قَرِبَهَا عَتَقَ عَبْدُهُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا جَرَى عَلَى سُنَنِ إكْرَاهِهِ، وَإِنْ تَرَكَهَا، فَبَانَتْ بِالْإِيلَاءِ قَبْلَ الدُّخُولِ غَرِمَ نِصْفَ الصَّدَاقِ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَبِيعَ عَبْدَهُ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ، ثُمَّ يَقْرَبُهَا فَيَسْقُطُ الْإِيلَاءُ، وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، فَإِنْ قَبِلَ الْبَيْعَ لَا يَتِمُّ بِهِ وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ بِهِ، وَبِالْمُشْتَرِي، وَقَدْ بَيَّنَّا قَبْلَ هَذَا أَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ الْبَيْعِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي إزَالَةِ مَعْنَى الْإِكْرَاهِ قُلْنَا هُنَاكَ كَانَ الْوَقْتُ ضَيِّقًا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَعْتِقُ بِدُخُولِ الدَّارِ، وَبِمَشِيئَةِ الْعِتْقِ، وَلَا يَتَّفِقُ وُجُودُ مُشْتَرٍ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الْمُدَّةِ، وَهُنَا الْوَقْتُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ يَجِدُ مُشْتَرِيًا يَرْغَبُ فِي شِرَاءِ الْعَبْدِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مُدَبَّرًا لَا يَقْدِرُ عَلَى بَيْعِهِ، وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً هِيَ أُمُّ وَلَدٍ، فَإِنْ قَرِبَ الْمَرْأَةَ عَتَقَ هَذَا، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الَّذِي أَكْرَهَهُ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ مَا أَكْرَهَهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ تَرَكَهَا حَتَّى بَانَتْ بِالْإِيلَاءِ، وَقَدْ دَخَلَ بِهَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الَّذِي أَكْرَهَهُ أَيْضًا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ النِّكَاحَ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا لَزِمَهُ نِصْفُ الْمَهْرِ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ قُرْبَانِهَا فِي الْمُدَّةِ لِيَسْقُطَ بِهِ الْإِيلَاءُ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ كَانَ فِي مَعْنَى مَا لَزِمَهُ مِنْ نِصْفِ الْمَهْرِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرِهِ بِالْأَقَلِّ مِنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ، وَمِنْ قِيمَةِ الَّذِي اسْتَحْلَفَهُ عَلَى عِتْقِهِ؛ لِأَنَّهُ مُلْجَأٌ فِي الْتِزَامِ الْأَقَلِّ، فَإِنَّهُ إمَّا أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَيَبْطُلَ مِلْكُهُ عَنْ الْمُدَبَّرِ، أَوْ لَا يَدْخُلَ بِهَا، فَيَلْزَمُهُ نِصْفُ الْمَهْرِ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَكَانَ مُلْجَأً مُضْطَرًّا فِي أَقَلِّهِمَا، وَالْمُكْرِهُ هُوَ الَّذِي أَلْجَأَهُ إلَى ذَلِكَ، فَلِهَذَا رَجَعَ عَلَيْهِ بِالْأَقَلِّ.
، وَجَمَعَ فِي السُّؤَالِ بَيْنَ الْمُدَبَّرِ، وَأُمِّ الْوَلَدِ، وَقِيلَ فِي أُمِّ الْوَلَدِ: الْجَوَابُ قَوْلُهُمَا، فَأَمَّا عِنْدَ تَحْقِيقِهِ، فَلَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ رِقَّ أُمِّ الْوَلَدِ عِنْدَهُ فَلَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ، وَإِنَّمَا لَهُ عَلَيْهَا مِلْكُ الْمُتْعَةِ بِمَنْزِلَةِ مِلْكِ النِّكَاحِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْمُكْرِهِ بِالْإِتْلَافِ.
.
وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ قَالَ إنْ قَرِبْتهَا، فَمَالِي صَدَقَةٌ فِي الْمَسَاكِينِ، فَتَرَكَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَبَانَتْ، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا، أَوْ قَرِبَهَا فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ، فَلَزِمَتْهُ الصَّدَقَةُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُكْرَهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ قَرِبَهَا، فَقَدْ خَالَفَ مَا أَمَرَهُ بِهِ الْمُكْرِهُ، وَإِنْ لَمْ يَقْرَبْهَا، فَقَدْ كَانَ هُوَ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَنْ يَقْرَبَهَا فِي الْمُدَّةِ، وَيَلْزَمُهُ بِالْقُرْبَانِ صَدَقَةٌ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ رَبِّهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجْبِرَهُ السُّلْطَانُ عَلَيْهَا، وَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ، وَهُوَ فِي الْمَعْنَى نَظِيرُ مَا لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى النَّذْرِ بِصَدَقَةِ مَالِهِ فِي الْمَسَاكِينِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.باب إكراهِ الْخَوَارِجِ الْمُتَأَوِّلِينَ:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ) وَإِنْ غَلَبَ قَوْمٌ مِنْ الْخَوَارِجِ الْمُتَأَوِّلِينَ عَلَى أَرْضٍ، وَجَرَى فِيهَا حُكْمُهُمْ، ثُمَّ أَكْرَهُوا رَجُلًا عَلَى شَيْءٍ مِمَّا، وَصَفْنَا فِي إكْرَاهِ اللُّصُوصِ، أَوْ إكْرَاهِ قَوْمٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ رَجُلًا عَلَى شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا فِي إكْرَاهِ اللُّصُوصِ، فَهَذَا فِي حَقِّ الْمُكْرَهِ فِيمَا يَسَعُهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهَا، أَوْ لَا يَسَعُهُ بِمَنْزِلَةِ إكْرَاهِ اللُّصُوصِ؛ لِأَنَّ الْإِلْجَاءَ تَحَقَّقَ بِخَوْفِ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ، وَذَلِكَ عِنْدَ قُدْرَةِ الْمُكْرِهِ عَلَى إيقَاعِ مَا هَدَّدَهُ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ اللُّصُوصِ، أَوْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، أَوْ مِنْ الْخَوَارِجِ، فَأَمَّا مَا يَضْمَنُ فِيهِ اللُّصُوصُ أَوَيَلْزَمُهُمْ بِهِ الْقَوَدُ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ، وَلَا عَلَى الْخَوَارِجِ الْمُتَأَوِّلِينَ كَمَا لَوْ بَاشَرُوا الْإِتْلَافَ بِأَيْدِيهِمْ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ غَيْرُ مُلْتَزِمِينَ لِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، وَإِذَا انْضَمَّتْ الْمَنَعَةُ بِالتَّأْوِيلِ فِي حَقِّ الْخَوَارِجِ كَانُوا بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ عَنْهُمْ فِيمَا أَتْلَفُوا مِنْ الدِّمَاءِ، وَالْأَمْوَالِ لِلْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَ أَنَّ الْفِتْنَةَ وَقَعَتْ، وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا مُتَوَافِرِينَ، وَاتَّفَقُوا أَنَّهُ لَا قَوَدَ فِي دَمٍ اُسْتُحِلَّ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ، وَلَا حَدَّ فِي، فَرْجٍ اُسْتُحِلَّ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ، وَلَا ضَمَانَ فِي مَالٍ اُسْتُحِلَّ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ إلَّا أَنْ يُوجَدَ شَيْءٌ بِعَيْنِهِ، فَيُرَدُّ إلَى أَهْلِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي السِّيَرِ.
.
وَلَوْ أَنَّ الْمُتَأَوِّلِينَ الشَّاهِدِينَ عَلَيْنَا بِالشِّرْكِ الْمُسْتَحِلِّينَ لِمَالِنَا اقْتَسَمُوهُ، وَأَخَذُوا جَوَارٍ مِنْ جَوَارِينَا، فَاقْتَسَمُوهُنَّ فِيمَا بَيْنَهُمْ كَمَا تُقْسَمُ الْغَنِيمَةُ، وَاسْتَوْلِدُوهُنَّ، ثُمَّ تَابُوا أَوْ ظُهِرَ عَلَيْهِمْ رُدَّتْ الْجَوَارِي إلَى مَوَالِيهنَّ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَمَلَّكُوهُنَّ إمَّا لِانْعِدَامِ تَمَامِ الْإِحْرَازِ، فَتَمَامُهُ بِالْإِحْرَازِ بِدَارٍ تُخَالِفُ دَارَ الْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ، أَوْ لِبَقَاءِ إحْرَازِ الْمُلَّاكِ لِبَقَاءِ الْجَوَارِي فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَا حَدَّ عَلَى الْوَاطِئِ مِنْهُنَّ، وَلَا عُقْرَ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ جُزْءٍ هُوَ عَيْنٌ، وَإِتْلَافُ الْجُزْءِ مُعْتَبَرٌ بِإِتْلَافِ الْكُلِّ، وَالْأَوْلَادُ أَحْرَارٌ بِعَيْنِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْوَاطِئَ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْرُورِ بِاعْتِبَارِ تَأْوِيلِهِ، وَالتَّأْوِيلُ الْفَاسِدُ عِنْدَ انْضِمَامِ الْمَنَعَةِ بِمَنْزِلَةِ التَّأْوِيلِ الصَّحِيحِ، وَوَلَدُ الْمَغْرُورِ حُرٌّ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ الْمَغْرُورِ إلَّا أَنَّ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ الْمَغْرُورُ يَضْمَنُ قِيمَةَ الْأَوْلَادِ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ حُدُوثَ الرِّقِّ فِيهِمْ، فَنَزَلَ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ الْإِتْلَافِ، وَهُنَا هُوَ لَا يَضْمَنُ الْوَلَدَ بِالْإِتْلَافِ لِصَاحِبِ الْجَارِيَةِ فَكَذَلِكَ لَا يَغْرَمُ قِيمَتَهُ بِسَبَبِ الْغُرُورِ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْحَرْبِ فِيمَا أَخَذُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مُدَّبَّرَةٍ، أَوْ أُمِّ وَلَدٍ، أَوْ مُكَاتَبَةٍ فَوَلَدَتْ لَهُمْ، ثُمَّ أَسْلَمُوا إنَّ هَؤُلَاءِ لَا يُمْلَكُونَ بِالْإِحْرَازِ، فَيَكُونُ حَالُ الْمُشْرِكِينَ فِيهِمْ كَحَالِ الْخَوَارِجِ فِي الْجَوَارِي عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.باب ما يخالف المكره فيه ما أمر به:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ) وَلَوْ أُكْرِهَ الرَّجُلُ عَلَى أَنْ يَهَبَ نِصْفَ دَارِهِ غَيْرَ مَقْسُومٍ، أَوْ لَمْ يُسَمِّ لَهُ مَقْسُومًا، وَلَا غَيْرَهُ، وَأُكْرِهَ عَلَى التَّسْلِيمِ، فَوَهَبَ الدَّارَ كُلَّهَا، وَسَلَّمَهَا، فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِغَيْرِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، فَالْجَمِيعُ غَيْرُ النِّصْفِ، وَهِبَةُ نِصْفِ الدَّارِ غَيْرُ مَقْسُومٍ هِبَةٌ فَاسِدَةٌ، وَهُوَ قَدْ أَتَى بِهِبَةٍ صَحِيحَةٍ عَرَفْنَا أَنَّ مَا أَتَى بِهِ غَيْرَ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، فَكَانَ طَائِعًا فِيهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أُمِرَ بِهِبَةِ الدَّارِ، فَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ، أَوْ بِصَدَقَتِهَا عَلَيْهِ، فَوَهَبَهَا لَهُ، وَهُوَ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ، أَوْ أَجْنَبِيٍّ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ غَيْرُ الصَّدَقَةِ، فَالْهِبَةُ تَمْلِيكُ الْمَالِ مِنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ الْعِوَضُ، وَالصَّدَقَةُ جَعَلَ الْمُتَصَدَّقُ بِهِ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا، ثُمَّ الصَّرْفُ إلَى الْفُقَرَاءِ لِتَكُونَ كِفَايَةً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ صَرْفَ الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ إلَى بَنِي هَاشِمٍ لَا تَجُوزُ، وَالْهِبَةُ لَهُمْ حَسَنٌ، وَأَنَّهُ لَا رُجُوعَ فِي الصَّدَقَةِ، وَحَقُّ الرُّجُوعِ ثَابِتٌ لِلْوَاهِبِ، وَفِي الْهِبَةِ مِنْ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ إنَّمَا لَا يَرْجِعُ لِصِيَانَةِ الرَّحِمِ عَنْ الْقَطِيعَةِ، أَوْ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْهِبَةِ، وَهُوَ صِلَةُ الرَّحِمِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الصَّدَقَةِ إذَا ثَبَتَ أَنَّ مَا أَتَى بِهِ غَيْرُ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ حَقِيقَةً، وَحُكْمًا كَانَ طَائِعًا فِيهِ.
وَلَوْ أَمَرَهُ بِالْهِبَةِ، فَنَحَلَهَا، أَوْ أَعْمَرَهَا كَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ النِّحْلَةَ، وَالْعُمْرَى هِبَةٌ، فَهَذِهِ أَلْفَاظٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَالْمَقْصُودُ بِالْكُلِّ وَاحِدٌ، وَفِي الْإِكْرَاهِ يُعْتَبَرُ الْمَقْصُودُ دَلَّ عَلَى الْفَرْقِ أَنَّ اخْتِلَافَ الشَّاهِدَيْنِ فِي لَفْظَةِ الْهِبَةِ، وَالنِّحْلَةِ، وَالْعُمْرَى لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ، وَاخْتِلَافَهُمَا فِي الْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ، أَوْ أَجْنَبِيًّا.
وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْهِبَةِ، وَالدَّفْعِ، فَوَهَبَ عَلَى عِوَضٍ، وَتَقَابَضَا كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِغَيْرِ مَا أَمَرَهُ بِهِ، فَالْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ بَعْدَ التَّقَابُضِ بَيْعٌ، فَكَأَنَّهُ أَكْرَهَهُ عَلَى الْهِبَةِ فَبَاعَ، وَلِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُكْرِهِ الْإِضْرَارُ بِإِتْلَافِ مِلْكِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَلَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ إذَا وَهَبَهُ عَلَى عِوَضٍ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَرْءُ مُمْتَنِعًا مِنْ الْهِبَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ الْهِبَةِ بِعِوَضٍ، وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَهَبَهُ عَلَى عِوَضٍ، وَيَدْفَعَهُ، فَبَاعَهُ بِذَلِكَ، وَتَقَابَضَا كَانَ بَاطِلًا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى الْبَيْعِ، وَالتَّقَابُضِ فَوَهَبَهُ عَلَى عِوَضٍ، وَتَقَابَضَا كَانَ بَعْدَ التَّقَابُضِ، وَالْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ حَتَّى يُثْبِتَ فِيهِ جَمِيعَ أَحْكَامِ الْبَيْعِ فَيَكُونُ هُوَ مُجِيبًا إلَى مَا طَلَبَ الْمُكْرِهُ فِي الْمَعْنَى، وَإِنْ خَالَفَهُ فِي اللَّفْظِ، وَلِأَنَّ قَصْدَ الْمُكْرِهِ الْإِضْرَارَ بِهِ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ لَفْظِ الْبَيْعِ، وَالْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ.
وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَهَبَهُ، وَيَدْفَعَهُ، فَفَعَلَ، فَعَوَّضَهُ الْآخَرُ مِنْ الْهِبَةِ بِغَيْرِ إكْرَاهٍ، فَقَبِلَهُ كَانَ هَذَا إجَازَةٌ مِنْهُ بِهِبَتِهِ حِينَ رَضِيَ بِالْعِوَضِ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ إمَّا يَكُونُ عَنْ هِبَةٍ صَحِيحَةٍ فَرِضَاهُ بِالْعِوَضِ يَكُونُ دَلِيلَ الرِّضَا مِنْهُ بِصِحَّةِ الْهِبَةِ، وَدَلِيلُ الرِّضَا كَصَرِيحِ الرِّضَا، فَإِنْ سَلَّمَ لَهُ الْعِوَضَ، فَإِنْ قَبَضَهُ بِتَسْلِيمِ الْعِوَضِ، فَهُوَ جَائِزٌ، وَلَا رُجُوعَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ كَمَا لَوْ كَانَتْ الْهِبَةُ بِغَيْرِ كُرْهٍ، فَعَوَّضَهُ، وَكَمَا فِي الْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يُسَلِّمَ الْعِوَضَ، وَقَالَ: قَدْ سَلَّمْت الْهِبَةَ حِينَ رَضِيت بِالْعِوَضِ، فَلَا أَدْفَعُ إلَيْك الْعِوَضَ، وَلَا سَبِيلَ لَك عَلَى الْهِبَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرِّضَا كَانَ فِي ضِمْنِ الْعِوَضِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ رَاضِيًا بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْعِوَضِ لَهُ، وَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْهِبَةِ كَمَا لَوْ، وَهَبَهُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ: قَدْ سَلَّمْته عَلَى أَنْ يُعَوِّضَنِي كَذَا، فَأَبَى لَمْ يَكُنْ هَذَا تَسْلِيمًا مِنْهُ لِلْهِبَةِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ رَجُلًا لَوْ وَهَبَ جَارِيَةَ رَجُلٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لِرَجُلٍ، وَقَبَضَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ فَقَالَ لَهُ رَبُّ الْجَارِيَةِ: عَوِّضْنِي مِنْهَا، فَعَوَّضَهُ عِوَضًا، وَقَبَضَهُ كَانَ هَذَا إجَازَةً مِنْهُ لِلْهِبَةِ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يُعَوِّضَهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا إجَازَةً مِنْهُ لِلْهِبَةِ، فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَجْبَرَهُ عَلَى بَيْعِ عَبْدِهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَعَلَى دَفْعِهِ، وَقَبْضِ الثَّمَنِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ لِلْمُشْتَرِي: زِدْنِي فِي الثَّمَنِ أَلْفَ دِرْهَمٍ لَمْ يَكُنْ هَذَا إجَازَةً لِلْبَيْعِ الْأَوَّلِ إلَّا أَنْ يَزِيدَهُ، فَإِنْ زَادَهُ جَازَ الْبَيْعُ، وَإِنْ لَمْ يَزِدْهُ، فَلَهُ أَنْ يُبْطِلَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ قَدْ أَجَزْت ذَلِكَ الْبَيْعَ عَلَى أَنْ تَزِيدَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَالْمَعْنَى فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ، وَهُوَ إنَّمَا رَضِيَ بِشَرْطِ أَنْ يُسَلِّمَ لَهُ الْعِوَضَ، وَالزِّيَادَةَ، فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِهِ.
وَلَوْ أَكْرَهَهُ بِوَعِيدِ تَلَفٍ، أَوْ حَبْسٍ عَلَى أَنْ يَبِيعَ عَبْدَهُ مِنْ هَذَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالدَّفْعِ، فَبَاعَهُ، وَدَفَعَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى الَّذِي أَكْرَهَهُ شَيْءٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُجَوِّزَ الْبَيْعَ إذَا كَانَ هُوَ الدَّافِعُ بِغَيْرِ إكْرَاهٍ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ دَفَعَهُ بَعْدَ مَا افْتَرَقَا مِنْ مَوْضِعِ الْإِكْرَاهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْبَيْعِ لَا يَكُونُ إكْرَاهًا عَلَى التَّسْلِيمِ بِخِلَافِ الْهِبَةِ.
(أَلَا تَرَى) لَوْ أَنَّ لِصًّا قَالَ لَهُ: لَأَقْتُلَنَّكَ، أَوْ لَتَبِيعَنَّهُ عَبْدَك هَذَا، فَإِنِّي قَدْ حَلَفْت لَتَبِيعَنَّهُ إيَّاهُ، فَبَاعَهُ خَرَجَ الْمُكْرَهُ مِنْ يَمِينِهِ، وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَنْ إشْكَالٍ يُقَالُ: فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ قَصْدَ الْمُكْرِهِ الْإِضْرَارُ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ تَمَامُهُ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ يَدِهِ؛ لِأَنَّ زَوَالَ الْمِلْكِ فِي بَيْعِ الْمُكْرَهِ لَا يَكُونُ إلَّا بِهِ كَمَا فِي الْهِبَةِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ يَكُونُ لِلْمُكْرَهِ مَقْصُودٌ فِي نَفْسِ الْبَيْعِ، وَلَكِنْ هَذَا الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ يَتَأَتَّى فِي الْهِبَةِ أَيْضًا، وَالْمُعْتَمَدُ هُوَ الْفَرْقُ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
وَلَوْ أَكْرَهَهُ بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى أَنْ يَهَبَهُ لَهُ، فَوَهَبَهُ، وَدَفَعَهُ، فَقَالَ قَدْ وَهَبْتَهُ لَك، فَخُذْهُ، فَأَخَذَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ، فَهَلَكَ عِنْدَهُ كَانَ لِلْمُكْرَهِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُكْرِهَ الْقِيمَةَ؛ لِأَنَّ إكْرَاهَهُ عَلَى الْهِبَةِ إكْرَاهٌ عَلَى التَّسْلِيمِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْقَابِضَ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّمَلُّكِ لِنَفْسِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ رَجُلًا لَوْ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَهَبَ جَارِيَتَهُ هَذِهِ لِفُلَانٍ، فَأَخَذَهَا الْمَأْمُورُ، فَوَهَبَهَا، وَدَفَعَهَا إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ جَازَ ذَلِكَ، فَلَمَّا جُعِلَ التَّوْكِيلُ بِالْهِبَةِ تَوْكِيلًا بِالتَّسْلِيمِ كَانَ الْمَقْصُودُ بِالْهِبَةِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ، فَكَذَلِكَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْهِبَةِ يَكُونُ إكْرَاهًا عَلَى التَّسْلِيمِ، ثُمَّ بَيَّنَ فِي الْأَصْلِ مَا يُوَضِّحُ هَذَا الْفَرْقَ، وَهُوَ أَنَّ إيجَابَ الْهِبَةِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ يَكُونُ إذْنًا فِي الْقَبْضِ إذَا كَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْهُمَا، وَإِيجَابُ الْبَيْعِ لَا يَكُونُ إذْنًا فِي الْقَبْضِ، وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ حَاضِرًا حَتَّى لَوْ قَبَضَهُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْبَائِعِ كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ حَتَّى يُعْطِيَهُ الثَّمَنَ، وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ فِي هَذَا الْحُكْمِ، وَكَانَ الطَّحْطَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ أَيْضًا: لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَقْبِضَهُ بِمَحْضَرٍ مِنْهُمَا مَا لَمْ يَنْهَهُ الْبَائِعُ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ إيجَابُ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ أَقْوَى مِنْ إيجَابِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ.
وَلَكِنْ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْكِتَابِ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَالْهِبَةِ نَظِيرُ الْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمِلْكَ يَحْصُلُ بِهِ، فَأَمَّا قَبْضُ الْمُشْتَرِي فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ، فَيَكُونُ مُسْقِطًا حَقَّ الْبَائِعِ فِي الْحَبْسِ، وَإِيجَابُ الْبَيْعِ لَا يَكُونُ إسْقَاطًا لِحَقِّهِ فِي الْحَبْسِ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْآمِرِ بِالْقَبْضِ لَيَسْقُطَ بِهِ حَقُّهُ.
وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ مِنْهُ بَيْعًا فَاسِدًا فَبَاعَهُ بَيْعًا جَائِزًا جَازَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِغَيْرِ مَا أَمَرَهُ بِهِ، فَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ، وَالْبَيْعُ الْجَائِزُ يُزِيلُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ الْمُمْتَنِعُ مِنْ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لَا يَكُونُ مُمْتَنِعًا مِنْ الْبَيْعِ الْجَائِزِ فَهُوَ طَائِعٌ فِيمَا أَتَى بِهِ مِنْ التَّصَرُّفِ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ مِنْهُ بَيْعًا جَائِزًا، وَيَدْفَعَهُ إلَيْهِ، فَبَاعَهُ بَيْعًا فَاسِدًا، وَدَفَعَهُ إلَيْهِ، فَهَلَكَ عِنْدَهُ، فَلِلْبَائِعِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُكْرَهَ إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ مَا أُمِرَ بِهِ، فَإِنَّهُ، وَإِنْ أَتَى بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَمَرَهُ بِهِ يَكُونُ الْبَيْعُ فَاسِدًا لِكَوْنِهِ مُكْرَهًا عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ أَتَى بِدُونِ مَا أَمَرَهُ بِهِ، وَالْمُمْتَنِعُ مِنْ الْبَيْعِ الْجَائِزِ يَكُونُ مُمْتَنِعًا مِنْ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَإِنَّمَا هَذَا بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ أَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ نَقْدِ بَيْتِ الْمَالِ، فَبَاعَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَيْهِ جَازَ، وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِأَلْفٍ، فَبَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ جَازَ، وَلَمْ يَكُنْ مُكْرَهًا، فَكَذَلِكَ فِيمَا سَبَقَ.
وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَهَبَ لَهُ نِصْفَ هَذِهِ الدَّارِ مَقْسُومًا، وَيَدْفَعَهُ إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ، فَوَهَبَ لَهُ الدَّارَ كُلَّهَا، وَدَفَعَهَا إلَيْهِ جَازَتْ الْهِبَةُ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُقَسِّمَ، ثُمَّ يَهَبَ لَهُ، فَحِينَ، وَهَبَ الدَّارَ كُلَّهَا قَبْلَ أَنْ يُقَسِّمَ، فَقَدْ خَالَفَ مَا أَمَرَهُ، وَكَذَلِكَ هَذَا الْقِيَاسُ فِي الْبَيْعِ لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَهُ نِصْفَ الدَّارِ مَقْسُومًا، فَبَاعَهُ الدَّارَ كُلَّهَا؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، فَهُوَ فِي الْبَيْعِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ لَا يَكُونُ مُطِيعًا لَهُ فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ، وَلِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَاهُ مُخَالِفًا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ الْقِسْمَةِ، وَفِي الْبَيْعِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ لَا نَدْرِي، أَيَّ شَيْءٍ يَضْمَنُهُ؟؛ لِأَنَّ بَيْنَ نِصْفَيْ الدَّارِ مَقْسُومًا تَفَاوُتًا فِي الْمَالِيَّةِ، وَمَعَ الْجَهَالَةِ لَا يُمْكِنُ إيجَابُ الضَّمَانِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ لَا أُجِيزُ هِبَتَهُ، وَلَا بَيْعَهُ فِي شَيْءٍ مِمَّا أَكْرَهَهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُكْرَهٌ عَلَى بَعْضِ ذَلِكَ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَبْطُلَ هِبَتُهُ، فَمَا كَانَ مُكْرَهًا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ يُبْطِلُ هِبَتَهُ، فَكَذَلِكَ فِي الْبَيْعِ الصَّفْقَةُ وَاحِدَةٌ، فَإِذَا بَطَلَتْ فِي الْبَعْضِ بَطَلَتْ فِي الْكُلِّ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَهَبَ لَهُ، أَوْ يَبِيعَهُ بَيْتًا مِنْ هَذِهِ الْبُيُوتِ، فَبَاعَهُ الْبُيُوتَ كُلَّهَا، أَوْ، وَهَبَهَا كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا فِي الِاسْتِحْسَانِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَطَلَ فِي بَعْضِ الْبُيُوتِ لِلْإِكْرَاهِ، فَيَبْطُلُ فِيمَا بَقِيَ لِاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ، وَجَهَالَةِ مَا يَنْفُذُ فِيهِ الْعَقْدُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.